بقلم خولة مراد
ينتشر الذكاء الصنعي (AI) وتقنياته الحديثة انتشارًا متزايدًا في الأعمال والمجتمع عمومًا. وقد بدأ تطبيق بعض هذه التقانات في مجال الرعاية الصحية. ولدى هذه التقنيات القدرة على قلب العديد من المفاهيم بما يخص الرعاية بالمرضى، فضلًا عن العمليات الإدارية داخل المؤسسات على اختلافها، سواء كانت خاصة بالممولين، أو البائعين، أو المؤسسات الدوائية.
تشير بعض الدراسات البحثية بأن الذكاء الصنعي يمكن أن يقوم بمهام الرعاية الصحية الرئيسية - كتشخيص الأمراض مثلًا – بما يضاهي الأداء البشري أو يتفوق عليه؛ ففي أيامنا هذه تتفوق الخوارزميات بالفعل على اختصاصي الأشعة في اكتشاف الأورام الخبيثة، وفي توجيه الباحثين إلى كيفية تكوين مجموعات الاختبار السريرية. ومع ذلك، ولأسباب متنوعة، يُعتقد أن سنوات عديدة ستنقضي قبل أن يحل الذكاء الصنعي محل البشر في مجال العمليات الطبية الواسع.
نَصِف في هذه المقالة الإمكانات التي يوفرها الذكاء الصنعي لأتمتة جوانب الرعاية الصحية، ونَعرض بعض العوائق التي تحول دون التطبيق السريع للذكاء الصنعي في هذا المجال.

أنواع الذكاء الصنعي المطبّقة في مجال الرعاية الصحية
لا تعني عبارة الذكاء الصنعي تقنيةً واحدة فقط، بل مجموعةً من التقنيات. ولكثير من هذه التقنيات صلة مباشرة بمجال الرعاية الصحية، وهي تدعم عمليات ومهام محددة على نطاق واسع. فيما يلي تحديدٌ ووصفٌ لبعض تقنيات الذكاء الصنعي الخاصة وذات الأهمية العالية في الرعاية الصحية.
التعلم الآلي - الشبكات العَصَبونية والتعلم العميق
التعلم الآلي أسلوبٌ إحصائي لتلاؤم النماذج مع المعطيات و"التعلم" عن طريق تدريب النماذج باستعمال المعطيات. يُعَدُّ التعلم الآلي أحد أكثر أنواع الذكاء الصنعي شيوعًا. وفي استطلاع أجرته شركة ديلويت Deloitte عام 2018 على 1100 مؤسسة أميركية تسعى إلى اعتماد الذكاء الصنعي، اتضح أن 63٪ من هذه الشركات تَستعمل فعليًّا التعلم الآلي في أعمالها.
إن التطبيق الأكثر شيوعًا للتعلم الآلي التقليدي في مجال الرعاية الصحية هو الطب الدقيق، أي التنبؤ ببروتوكولات العلاج التي من المحتمل أن تنجح عند معالجة المريض بناءً على سماته المختلفة وعلى سياق العلاج. تتطلب الغالبية العظمى من تطبيقات التعلم الآلي والطب الدقيق مجموعةَ معطيات تدريبية حيث تكون مخرجاتها معروفة النتيجة سلفًا، وهذا ما يسمى بالتعلم الخاضع للإشراف.
هناك لونٌ أشد تعقيدًا من ألوان التعلم الآلي وهو الشبكة العَصَبونية - وهي تقنية كانت متاحة منذ ستينيات القرن الماضي- وقد بقيت هذه التقنية راسخةً في أبحاث الرعاية الصحية عدة عقود، حيث استُعملت في التطبيقات التي تهتم بالتصنيف؛ مثل تحديد إمكان إصابة شخص ما بمرض معيَّن في المستقبل. وتُقارِب هذه التقنيةُ المسألةَ من حيث المدخلات والمخرجات وتثقيل المتغيرات أو "الميزات" التي تربط المدخلات بالمخرجات. وقد شبِّهت هذه التقنية بالطريقة التي تعالِج بها الخلايا العَصَبونيةُ الإشاراتِ، لكن التشابه بينها وبين وظيفة الدماغ ضعيف نسبيًّا.
تتضمن أكثر أنواع التعلم الآلي تعقيدًا ما نسميه بالتعلم العميق، أو نماذج الشبكة العصبونية مع العديد من مستويات الميزات أو المتغيرات التي تتنبأ بالنتائج. قد يكون هناك الآلاف من الميزات المخفية في مثل هذه النماذج، والتي يتم الكشف عنها تباعًا مع ازدياد سرعة المعالجة لوحدات معالجة الرسومات وللبنى السحابية. التطبيق الشائع للتعلم العميق في الرعاية الصحية هو تعرُّف الآفات السرطانية المحتملة في صور الأشعة. حيث يتزايد تطبيق التعلم العميق في علم الأشعة، وفي اكتشاف الميزات ذات الصلة السريرية في معطيات التصوير بما يتجاوز ما يمكن أن تدركه العين البشرية. إن كلًّا من علم الأشعة والتعلم العميق شائعان جدًّا في تحليل الصور بما يخص الأورام؛ إذ يبدو أن دمجهما يؤدي إلى مزيد من الدقة في التشخيص مقارنةً بالجيل السابق من الأدوات الآلية لتحليل الصور، المعروفة باسم الاكتشاف بمساعدة الحاسوب أو CAD.

معالجة اللغات الطبيعية
كان فهم اللغة البشرية هدفًا لباحثي الذكاء الصنعي منذ خمسينيات القرن الماضي؛ إذ إن مجال البرمجة اللغوية العصبونية يتضمن تطبيقات متعددة؛ مثل: تعرُّف الكلام، وتحليل النصوص، والترجمة، وأهداف أخرى. ثمة طريقتان أساسيتان للبرمجة اللغوية العَصَبونية؛ هما: البرمجة الدلالية، والبرمجة الإحصائية. تعتمد البرمجة اللغوية العصبونية الإحصائية على التعلم الآلي (وخاصة الشبكات العصبونية للتعلم العميق). وقد ساهمت هذه البرمجة في المدة الأخيرة في زيادة دقة التعرف. وهي تتطلب مجموعة لغوية كبيرة للتعلم منها.
في مجال الرعاية الصحية، يمكن لنظم البرمجة اللغوية العصبونية (NLP) تحليل الملاحظات السريرية للمرضى، وإعداد التقارير المختلفة (كفحوص الأشعة مثلًا)، وتسجيل تفاعلات المريض، وإجراء محادثة الذكاء الصنعي.
النظم الخبيرة القائمة على القواعد
كانت النظم الخبيرة القائمة على مجموعات قواعد "if-then" هي التقنيات المهيمنة على الذكاء الصنعي في ثمانينيات القرن الماضي. وقد جرى استثمارها على نطاق واسع -في مجال الرعاية الصحية- لأغراض "دعم القرار السريري" على مدار العقدين الماضيين، وما تزال في قيد الاستثمار حتى أيامنا هذه، حيث يقدم العديد من مزودي السجلات الصحية الإلكترونية (EHR) مجموعة من القواعد لأنظمتهم.
وتتطلب هذه النظم الخبيرة خبرات بشرية ومهندسين ذوي معرفة لبناء سلسلة من القواعد في مجال معيَّن. وقد تعمل هذه النظم جيدًا حتى مستوى معيَّن، بل ويسهل فهمها أيضًا. ولكن عندما يكون عدد القواعد كبيرًا (ما يزيد على عدة آلاف) يبدأ بالتعارض فيما بينها، مما يؤدي إلى خلل في عملها. إضافة إلى ذلك، قد يكون تغيير القواعد أمرًا صعبًا، وربما يستغرق وقتًا طويلًا إذا تغير مجال المعرفة. في مجال الرعاية الصحية تُستبدَل هذه القواعد ببطء بالاعتماد على الأساليب القائمة على المعطيات وخوارزميات التعلم الآلي.
الروبوتات
يتم تثبيت أكثر من 200000 روبوت صناعي كل عام حول العالم. وهم يؤدون مهامَّ محددة سلفًا؛ كرفع الأشياء أو إعادة وضعها أو لحامها أو تجميعها في أماكن مثل المصانع والمستودعات، وكذلك يعتمد عليها في تقديم الإمدادات في المستشفيات. وقد أصبحت الروبوتات - في المدة الأخيرة - أكثر تعاونًا مع البشر، فصار تدريبها أسهل عن طريق تحريكها بدقة خلال مراحل المهمة المطلوب تنفيذها. وكذلك أصبحت هذه الروبوتات أكثر ذكاءً أيضًا، حيث تُدمَج قدرات الذكاء الصنعي الأخرى في "أدمغتها" (نظم التشغيل الخاصة بها). ومن المحتمل - مع مرور الوقت - أن مراحل تطور الذكاء التي رأيناها في مجالات أخرى من الذكاء الصنعي ستُدمج في الروبوتات.
توفر الروبوتات الجراحية، التي تمت الموافقة عليها مبدئيًّا في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2000 إمكانات خارقة للجراحين، فهي تحسِّن قدرتهم على الرؤية، وتساعدهم على إنشاء شقوق جراحية دقيقة بأقل قدرٍ من التدخل الجراحي، وعلى تقطيب الجروح وغير ذلك من الخدمات الدقيقة. ومع أن الجراحين ما زالوا يتخذون القرارات المهمة، فإن الروبوتات تُستعمل في العديد من العمليات الجراحية الشائعة كالجراحة النسائية وجراحة البروستات وجراحة الرأس والرقبة.

أتمتة العمليات الروبوتية
تؤدي هذه التقنية مهامَّ رقمية هامة في نظم المعلومات، وبالمقارنة بالأنماط الأخرى للذكاء الصنعي، تبدو تكلفة هذه التقنية غير كبيرة، إضافة إلى أنها سهلة البرمجة وشفافة في أفعالها.
أتمتة العمليات الروبوتية لا تتضمن الروبوتات بحد ذاتها، بل تتضمن برامج الحاسوب الموجودة على المخدمات. وهي تعتمد على قواعد العمل وعلى تدفق حركة الوثائق. وتُستعمل في الرعاية الصحية للمهام المتكررة؛ مثل: تحديث سجلات المرضى، وإصدار الفواتير. ويمكن استعمالها لقراءة المعطيات واستخراجها من الصور، وذلك عند دمج هذه التقنية مع تقنيات أخرى مثل تعرُّف الصور، وقراءة المعطيات من الصور المرسلة بالفاكس لإدخالها في المعاملات.
تطبيقات التشخيص والعلاج
بدأ تركيز تشخيص الأمراض وعلاجها على الذكاء الصنعي منذ سبعينيات القرن الماضي، عندما استُحدث نظام مايسين MYCIN في جامعة ستانفورد لتشخيص العدوى البكتيرية المنقولة بالدم؛ فقد أظهر هذا النظام -وغيره من النظم- بوادر واعدة في تشخيص الأمراض وعلاجها بدقة على الرغم من أنه لم يكن معتمَدًا سريريًّا، لأنه لم يُعطِ تشخيصًا أفضل للأمراض مقارنة بتشخيص الأطباء، إضافة إلى أنه لم يندمج في آلية عمل الأطباء ونظم السجلات الطبية التقليدية اندماجًا جيدًا.

أما في المدة الأخيرة، فقد لقي نظام واتسون Watson من شركة IBM (وهو نظام حاسوبي خاص بالذكاء الصنعي يستطيع الإجابة عن الأسئلة الطبية باللغة الطبيعية) اهتمامًا كبيرًا في وسائل الإعلام بسبب تركيزه على الطب الدقيق، وخاصة تشخيص الأمراض السرطانية وعلاجها. يَستعمل نظام واتسون مجموعةً من خوارزميات التعلم الآلي ومعالجة اللغات الطبيعية. ومع ذلك فقد تلاشى الحماس المبكر لهذا التطبيق التقني، حيث برزت صعوبات في تعليمه كيفيةَ التعامل مع أنواع معيَّنة من السرطانات وفي دمجه في عمليات ونظم الرعاية الطبية. وواقع الأمر أن نظام واتسون ليس منتَجًا واحدًا منفردًا، ولكنه مجموعة من "الخدمات المعرفية" المتوفرة عن طريق واجهات برمجة التطبيقات (APIs)، ومنها برامج تحليل المعطيات القائمة على الكلام واللغة والرؤية والتعلم الآلي.
يشعر معظم المراقبين أن نظام واتسون لديه القدرة التقنية اللازمة، ولكن تطبيقه على علاج السرطان كان هدفًا طموحًا مبالغًا به، إضافة إلى أنه لقي هو وغيره من البرمجيات الاحتكارية منافسة قوية من البرامج المجانية "المفتوحة المصدر" التي يقدمها الآخرون مثل تنسرفلو TensorFlow من غوغل Google (وهي مكتبة رياضيات رمزية تُستعمل في التعلم الآلي).
نادرًا ما يمر أسبوع دون أن يدَّعي مختبر ما أو مركز أبحاث طبي ما بأنه طوَّر منهجًا لاستعمال الذكاء الصنعي أو المعطيات الضخمة لتشخيص وعلاج الأمراض بدقةٍ تساوي أو تفوق دقة تشخيص الأطباء البشريين. ولما كانت هذه الأنواع من المناهج تستند إلى نماذج التعلم الآلي التي تستند بدورها إلى علم الإحصاء، فإنها تبشر بحقبة من الطب القائم على الأدلة والاحتمالات، والذي يُنظر إليه عمومًا على أنه إيجابي، ولكنه يجلب معه العديد من التحديات في أخلاقيات الطب والعلاقة بين المريض والطبيب.
تعمل شركات التقانة وبعض الشركات الناشئة أيضًا بجدٍّ على نفس الموضوع. فمثلًا تتعاون شركة غوغل مع شبكات تقديم الخدمات الصحية لبناء نماذج تنبؤ انطلاقًا من المعطيات الضخمة لتحذير الأطباء من الحالات العالية الخطورة، مثل تعفن الدم وفشل القلب. كذلك تعمل غوغل مع شركة إنليتيك Enlitic ومجموعة متنوعة من الشركات الناشئة الأخرى على تطوير خوارزميات تفسير الصور المشتقة من الذكاء الصنعي.
هناك أيضًا العديد من الشركات التي تركز بوجه خاص على توصيات التشخيص والعلاج لأنواع معينة من السرطانات بناءً على خصائصها الجينية. فقد وجد الأطباء البشريون أن فهم جميع المتغيرات الجينية للسرطان واستجابتها للأدوية والبروتوكولات الجديدة أمر معقد، على حين أن العديد من السرطانات لها أساس وراثي.

تطبيقات الالتزام بالمرضى
لطالما كان يُنظر إلى الاعتناء بالمريض والالتزام به على أنه الحلقة الأخيرة في مسألة رعايته الصحية والتي تحدِّد -في حقيقة الأمر- أن النتيجةَ النهائية للرعاية الصحية فعالةٌ وجيدة أم العكس. وكلما زادت مشاركة المرضى في رعاية أنفسهم، كانت النتائج أفضل على المستوى الصحي وعلى المستوى المالي وحتى على مستوى الخبرة المكتسبة. تُعالَج هذه العوامل تتابعيًّا عن طريق معالجة المعطيات الضخمة والذكاء الصنعي.
تَستعمل المستشفيات خبراتها السريرية لوضع خطةٍ لرعاية المرضى يُعتقد بأنها ستحسِّن صحة المريض مرضًا مزمنًا أو حادًّا. قد لا يصبح الأمر مهمًا إذا لم يعدِّل المريض سلوكه بما يناسب خطة العلاج التي أوصى بها مركز الرعاية الطبية، كفقدان الوزن، أو تحديد موعد مراجعة الطبيب، أو شراء الوصفات الطبية، أو الامتثال لخطة العلاج. إن عدم امتثال المريض للخطة العلاجية أو عدم تناوله الأدوية الموصوفة له بدقة يعد مشكلة كبيرة.
إذا أدت المشاركة الفعالة للمرضى إلى نتائج صحية أفضل، فهل يمكن للقدرات المستندة إلى الذكاء الصنعي أن تكون فعالة في مجال الرعاية الصحية؟ في الواقع هناك تركيز متزايد على استعمال التعلم الآلي ومحركات قواعد العمل للتدخل الإيجابي في استمرارية عملية الرعاية الصحية. لذلك تعتبر رسائل التنبيه والمحتوى الذي يحرِّض على حدوث إجرائية مهمة في لحظةٍ حرجة مجالًا واعدًا للبحث.
يتزايد حاليًا التركيز على مجال آخر في مجال الرعاية الصحية وهو التصميم الفعال لـ "هندسة الاختيار" لتحفيز سلوك المريض استنادًا إلى أدلة واقعية، وذلك بواسطة معلومات تقدمها نظم السجلات الصحية الإلكترونية، وأجهزة الاستشعار الحيوية، والساعات، والهواتف الذكية وغيرها من الأجهزة، حيث يمكن للبرمجيات أن تضع التوصيات اعتمادًا على مقارنة معطيات المريض بمسارات العلاج الفعالة الأخرى لحالات مماثلة. ويمكن أن تقدَّم هذه التوصيات للجهات التي تقدم خدمات الرعاية الصحية أو للمرضى أو للممرضات.
الآثار المترتبة على القوى العاملة في مجال الرعاية الصحية
كان هناك قلق كبير من أن يؤدي الذكاء الصنعي إلى أتمتة الكثير من الوظائف، ومن ثَم إزاحة عدد كبير من الأيدي العاملة. فهناك دراسة تقول إن نسبة 35٪ من الوظائف في المملكة المتحدة يمكن أن تصبح آلية بسبب الذكاء الصنعي، وذلك على مدى الأعوام العشرين القادمة، على حين اقترحت دراسات أخرى أنه مع أن أتمتة بعض الوظائف أمر ممكن، إلا أن هناك مجموعة متنوعة من العوامل الأخرى غير التقنية يمكن أن تحد من فقدان الوظائف، مثل تكلفة تقنيات الأتمتة، ونمو سوق العمل، ومزايا الأتمتة التي تتجاوز الاستبدال البسيط للعمالة، والعوامل التنظيمية والقبول الاجتماعي. كل هذه العوامل قد تَحدُّ من فقدان الوظائف الفعلي إلى 5٪ أو حتى أقل.
الآثار الأخلاقية
هناك مجموعة متنوعة من الآثار الأخلاقية المتعلقة باستعمال الذكاء الصنعي في الرعاية الصحية. في الماضي كان الأطباء هم الذين يتخذون قرارات الرعاية الصحية. واستعمال الآلات الذكية للمساعدة على اتخاذ هذه القرارات في هذه المراحل يثير قضايا مهمة على مستوى المسؤولية والشفافية والخصوصية وموافقة المريض.
بالنظر إلى تقنيات العصر، ربما تكون الشفافية هي أصعب مشكلة يجب معالجتها. يكاد يكون تفسير أو شرح العديد من خوارزميات الذكاء الصنعي - وخاصة خوارزميات التعلم العميق المستعملة في تحليل الصور – ضربًا من المستحيل. فقد لا تتمكن خوارزميات التعلم العميق وحتى الأطباء المختصون أنفسهم من تقديم تفسير ما لمريض يرغب في معرفة ما آلت إليه نتيجة الصورة التي التُقطت له جراء تشخيص إصابته بالسرطان.
لا شك أن نظم الذكاء الصنعي سترتكب أخطاءً في تشخيص المرضى وعلاجهم، وقد يكون من الصعب إلقاء المسؤولية على هذه النظم. ومن المحتمل أيضًا أن تحصل حوادث يتلقى فيها المرضى تشخيصًا أو معلومات طبية من نظم الذكاء الصنعي، على حين أنهم كانوا يفضلون تلقيها من طبيب إنسان مثلهم ليتعاطف معهم. قد تخضع نظم التعلم الآلي في الرعاية الصحية أيضًا لانحراف في خوارزمياتها، إذ ربما تتنبأ باحتمالية أكبر للإصابة بالمرض على أساس الجنس أو العرق في الوقت الذي لا تكون هذه العوامل مسببة للمرض في الواقع.
من المحتمل أن نواجه العديد من التغييرات الأخلاقية والطبية والمهنية التقنية مع دخول الذكاء الصنعي في الرعاية الصحية. لذلك يبدو مهمًا أن تقوم مؤسسات الرعاية الصحية، وكذلك الهيئات الحكومية بإنشاء بنية تنظيمية أو هيئة لرصد القضايا الرئيسية والتفاعل معها بطريقة مسؤولة، وإقرار آليات للحد من الآثار السلبية. هذه واحدة من أكثر التقنيات قوة وتأثيرًا على المجتمعات البشرية، لذا فهي تتطلب اهتمامًا مستمرًا وسياسة مدروسة لسنوات عديدة.

مستقبل الذكاء الصنعي في الرعاية الصحية
يُعتقد أن الذكاء الصنعي سيكون له دورٌ مهمٌّ في تقديم الرعاية الصحية مستقبلًا، وهو الدافع الأساسي وراء تطور الطب الدقيق عن طريق التعلم الآلي. وعلى الرغم من أن الجهود المبكرة لتقديم توصيات التشخيص والعلاج تواجه تحديات صعبة، إلا أنه من المتوقع أن يسيطر الذكاء الصنعي على هذا المجال في نهاية المطاف. فنظرًا إلى التقدم السريع الذي يحرزه في تحليل الصور الشعاعية، يبدو من المحتمل أن يتم فحص معظم صور الأشعة وعلم الأمراض في مرحلة ما بواسطة الآلات. على حين أنه تُستعمل حاليًّا وبشكل عملي تقنيات تعرُّف الكلام وتعرُّف النص في عمليات وإجرائيات متعددة كالتواصل مع المرضى وتسجيل الملاحظات السريرية لهم، وسيزداد استعمال تقنيات كهذه مع مرور الزمن.
إن التحدي الأكبر الذي يواجه الذكاء الصنعي في مجال الرعاية الصحية لا يتعلق بتقنياته المستعملة ومقدار الرضا عن الخدمات والفوائد التي تقدمها هذه التقنيات فحسب، بل يتعلق أيضًا بضمان اعتمادها في الممارسة السريرية اليومية. فلكي تصبح نظم الذكاء الصنعي معتمَدةً على نطاق واسع، يجب أن توافق عليها الجهات المنظمة والمسؤولة، وأن تكون مدمجة في نظم السجلات الصحية الإلكترونية، ومعيارية بدرجة كافية بحيث تعمل المنتجات المتماثلة بطريقة منسجمة، وأن يتدرب الأطباء على تقنياتها المختلفة، وأن تدفع المؤسسات العامة أو الخاصة تكاليفها، وأن تُحدَّث باستمرار.
وفي نهاية المطاف سيتم التغلب على مجمل هذه التحديات، ولكن ذلك يتطلب وقتًا أطول مما تتطلبه هذه التقنيات نفسها لكي تنضج. نتيجة لذلك، يُتوقع أن نرى استعمالًا محدودًا للذكاء الصنعي في الممارسة السريرية خلال السنوات الخمس القادمة، واستعمالًا أوسع وأشمل خلال السنوات العشر اللاحقة.
يبدو واضحًا أن نظم الذكاء الصنعي لن تحل محل الأطباء البشريين عمومًا، بل سوف تزيد من جهودهم المبذولة لرعاية المرضى. وبمرور الوقت، قد يتجه الأطباء البشريون نحو المهام والوظائف التي تتطلب مهارات بشرية فريدة، مثل التعاطف، والإقناع، ومحاولة التكامل بين العناصر العديدة والمتداخلة. أما الذين يرفضون العمل جنبًا إلى جنب مع الذكاء الصنعي في مجال الرعاية الصحية، فربما يكونون الوحيدين الذين سيفقدون وظائفهم بمرور الوقت.
المراجع
[1] https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC6616181
قد ترغب كذلك بقراءة