ملف العدد
الاعتماد على حلول الحوسبة الإدراكية في مجالات الرعاية الصحية
العدد 150 | كانون اﻷول (ديسمبر)-2019

بقلم بلال شريفة
مهندس حواسيب

لا تتوقف الابتكارات في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات عن التطور والتوسع، ونشهد بسببها تطوراتٍ في شتى التطبيقات والخدمات اليومية. يعتمد هذا التطور على المصادر المحوسبة الواسعة الانتشار إضافة إلى كمية البيانات المتبادلة بسرعة بين مختلف الأنظمة والأجهزة. ونتيجة لذلك ستشهد أصناف واسعة من التطبيقات تقدمًا ملحوظًا، وستكون الطريق ممهدة لبناء موجة من الخدمات الحديثة.

نستطيع القول إن الكلمات المفتاحية التي تصف المنصات التقنية للمرحلة القادمة هي: الحوسبة السحابية، وشبكات الوب الدلالية، وعلوم البيانات الضخمة، وأخيرًا الحوسبة الإدراكية.

تستند الحوسبة الإدراكية إلى بنية هيكلية سحابية وتوظِّف الوب الدلالي لتحليل البيانات الضخمة، ويُعزى نجاحها إلى قدرتها السريعة على معالجة كميات ضخمة من المعطيات بالاستعانة بخوارزميات تعلُّم الآلة المبتكرة والمتطورة.

يُعَدّ مجال الرعاية الصحية من أهم المجالات الرائدة في الوقت الراهن، وهو مجال رحب لتُطبَّق عليه الحوسبة الإدراكية. سنقدم في هذا المقال لمحة عامة عن أبحاث هذا المجال وبعض نتائجها.

الحوسبة الإدراكية

تُعرَّف الحوسبة الإدراكية بأنها تكنولوجيا الذكاء الصنعي التي تشير إلى الأنظمة القادرة على التعلم والفهم وإيجاد الدلائل والأسباب ومن ثم التفاعل مع البيئات المحيطة.

يمكن النظر إلى الحوسبة الإدراكية من الناحية العملية على أنها تجديد لنظريات سابقة كان من الصعب إيجاد تطبيقات عملية لها عند صياغتها نظرًا لانخفاض القدرة الحاسوبية آنذاك. ومن أمثلة ذلك الذكاء الصنعي والشبكات العصبونية التي كانت توصف بالتعقيد الكبير والمتطلبات الكثيرة لتنفيذ عملياتها على أعداد كبيرة منها على التوازي؛ فقد اعُتمِد الذكاء الصنعي التقليدي لتدريب مجموعات البيانات على نماذج النظم الخبيرة والإحصائيات والنماذج الرياضية المعقدة، وهذه بدورها تتطلب تنفيذ عمليات كثيرة خلال ثانية واحدة على مجموعات ضخمة من البيانات. وفي هذا السياق يمكن اعتبار الحوسبة الإدراكية انتصارًا للذكاء الصنعي، حيث أصبحنا نمتلك في هذه الأيام هيكلية حاسوبية ملائمة لمعالجة مشاكل كبيرة متعددة الأبعاد على مجموعات بيانات ضخمة، وصار بالإمكان تحليل واستخلاص معارف جديدة تؤدي إلى إيجاد حلول لمشاكل من أصناف متباعدة وغير متجانسة. وبذلك يمكننا البدء بالتفكير في الجيل الجديد من الأنظمة شبه مستقلة، التي ترتكز أساسًا على محاكاة التصرفات البشرية والاستدلال المنطقي.

ستكون الأنظمة المعتمِدة على الحوسبة الإدراكية قادرة على استكمال أصعب المهام مثل: التصنيف، ومعالجة الكلام المحكي، واستخراج البيانات، والتحليل الآلي، واستخلاص العلاقات من مجموعات غير مهيكلة، وتَعرُّف الصور، والتحويل من نص مكتوب إلى كلام وبالعكس. وهذا يعطي دفعة باتجاه زيادة الثقة بين الإنسان والآلة من حيث الأجوبة الموثوقة التي تقدمها الآلة، وذلك في حدود مقبولة من الثقة في مجالات حساسة كالطب والتعليم أو حتى الاقتصاد.

ومن الجدير بالذكر، أن ثمة اتحادًا للحوسبة الإدراكية يضم عددًا كبيرًا من الباحثين والمختصين في المعلوماتية، إضافة إلى بعض الشركات والمعاهد والجامعات. وخلال السنين القليلة الماضية طوِّر عدد من تطبيقات الحوسبة الإدراكية في مجالات عديدة كالاستدلال المنطقي، والتعلم العميق، وتحليل النص والكلام والصور والفيديو، ومعالجة الكلام، وتعلم الآلة.

تطبيقات الحوسبة الإدراكية في الرعاية الصحية

إن التحويل الرقمي للسجلات الطبية الحاصل في السنوات الأخيرة، وكغيرها من مجالات التطبيقات، أدى إلى معاناة جديدة في مجال الرعاية الصحية؛ وهي تفجُّر المعلومات. فمن جهة أولى تتيح الكمية الهائلة للبيانات فرصًا جديدة لاستثمارات في أبحاث تتعلق بإيجاد علاج فعّال للأمراض، ومن جهة أخرى سيكون من الصعب على الأطباء ومقدمي الرعاية الصحية إدارة هذه الكمية الهائلة من المعلومات. ولما كانت القدرة الفريدة للحوسبة الإدراكية على الاستدلال تمكنها من القيام بتحليل تفصيلي واستكشاف مقارنات من كل البيانات المتوفرة، فإنها ستُكّون شراكة فعّالة بين الحوسبة الإدراكية والرعاية الصحية.

ولدى الباحثين تصورات متنوعة لتطبيقات حوسبة معرفية يمكنها أن تُشارك في تطوير الرعاية الصحية، غير أن خاصية واعدة برزت في المدة الأخيرة؛ وهي القدرة على معالجة وإدارة الكمية الضخمة من المعلومات في هذا المجال. فالحوسبة الإدراكية قادرة في الواقع على استعمال حلول لإدارة البيانات الضخمة وحلول دعم القرار لدعم هذا التصنيف من المشاكل الاعتيادية في الطب. وكانت النتائج مثيرةً للإعجاب ولافتة للنظر، فقد استُعملت في تشخيص مرض السرطان وأعلن مزودو التكنولوجيا المشاركين (Deep Mind, Google, and Watson) نتائج هذا الاستعمال. وكما ذُكر سابقًا، فإن تَعرُّف الصور وتصنيفها هو خاصية مميزة للحوسبة الإدراكية. وهذه الخاصية تقدم مساعدة استراتيجية للحد من أمراض السرطان، وخاصة ما يتعلق بسرطان الثدي وسرطان الرئة وسرطان البروستات.

وتُقدم الحوسبة الإدراكية مساعدة كبيرة لدعم الأطباء وتخليصهم من أعباء تحليل المئات من المستندات لمرض محدَّد في وقت قصير، وإعطاء التفسير الدلالي للتشخيص الصوري.

ومن الجدير بالذكر أن تطبيقات الحوسبة الإدراكية في مجال الطب تواجهها بعض المعوقات، كتخزين البيانات الطبية المتفرقة وغير المهيكلة، وضعف المهارات الحاسوبية للأطباء والممرضين. غير أن هناك تحسينات لوحظت عند استعمال أنظمة الحوسبة الإدراكية للمعالجة المرضية بنسبة 50% على الأقل، وانخفضت الخدمات الاستشفائية إلى النصف، وقلَّت أخطاء التشخيص وخصوصًا في الأمراض السرطانية، وهذا كله مما يزيد الاعتماد على هذه الأنظمة لأن كثيرًا من الوفيات حصلت بسبب أخطاء التشخيص.

 

الشكل (1) عناصر وإمكانات نظام الحوسبة الإدراكية لعلاج الأورام

 

لتوضيح الوضع سنقدم مراجعة لحلول الحوسبة الإدراكية والتقنيات ذات الصلة المطبقة في مجالات الرعاية الصحية.

  • دعم القرار

يمكننا الاستفادة من قدرات الحوسبة الإدراكية لاتخاذ القرارات ودعمها. كمثال على هذا طُرِحَ وصفٌ لنظام دعم قرار مبني على عمليات قرار ماركوف، واستُعملت فيه الشبكات العصبونية لتقوم بتطبيق ما يدعى مقاربة النمذجة الزمنية، التي أتاحت التقاط المعارف البشرية في مجالات معينة. وعليه يجب على الأنظمة الحاسوبية محاكاة نفس التصرف والعمليات، حيث من المتوقع أن تقوم الحوسبة الإدراكية بتحسين الأداء للمقاربة المشار إليها باستمرار.

وفي سياق آخر جرى توصيف مشكلة الحمل الزائد الكبير على أنظمة المعلومات الإلكترونية الطبية، ومشكلة عدم قدرتها على الحصول على فائدة أو معنى من هذه المعلومات في سبيل زيادة وتحسين الرعاية الطبية للمرضى، فصُمِّمت أنظمة حوسبة إدراكية لإجراء تحليلات متقدمة على سجلات بيانات المرضى. وهذا يتطلب فهمًا عميقًا للأسئلة المطروحة في سجلات المرضى، ومساعدة الأطباء على معرفة التصرفات غير الطبيعية المستعجلة وتزويدهم بالأسباب الدقيقة لمثل هذه الحالات. وبذلك سيتحول هذا النظام إلى كيان نشيط يساعد في صنع القرار، وتسخير كميات كبيرة من المعارف في العلوم والنظريات الطبية ومعلومات الأدوية.

  • البيانات الضخمة والتحليلات

تطبق عملية الرقمنة أيضًا في مجال الصحة وفي مجال إدارة بيانات المرضى. على أن الاعتماد السريع على أنظمة صحية معلوماتية قاد إلى كميات كبيرة من البيانات داخل مجال الرعاية الصحية. ولكن هذه البيانات لا يمكن معالجتها وإدارتها بأدوات معالجة البيانات التقليدية، ومن ثَم يجب أن تعالج بطرق أصولية لجعلها ذات قيمة لتحسين فعالية العلاجات وتطوير الأبحاث لتعزيز الوقاية الصحية، وبالنتيجة تخفيف التكاليف. وفي هذا الخصوص جرى تقديم مفهوم التحليلات الصحية، وهو الاستعمال المنهجي للبيانات الصحية والمعلومات المرتبطة بها والمطورة خلال تطبيق النماذج التحليلية (مثل: الإحصائية، والسياقية، والكمية، والتنبُّئِية، والإدراكية، ونماذج أخرى) وذلك لدفع عملية اتخاذ القرارات القائمة على الحقائق من أجل التخطيط والإدارة والتعلم.

  • نظام Watson في الرعاية الصحية

طوَّرت هذا النظام شركة IBM. وأصبحت الحواسيب الخارقة قادرة الآن على العمل في مجال الرعاية الصحية، وتحولت إلى العمل في تطبيقات عملية، ويجري تعليمها أيضًا لاستيعاب التعقيدات الصحية، حيث يجب التركيز على أنه "يجري تعليمها" وليس "يجري برمجتها". وقد صنِّفت الاستعمالات العملية التي تقوم بها هذه الحواسيب تصنيفًا ملائمًا؛ مثل: أبحاث السرطان، وإدارة سلسلة التوريد، وتمكين المستهلكين للمساعدة على إيجاد نتائج صحية أفضل. وهناك حالات دراسية كافية يجري التعامل معها في مراكز لمرض السرطان Memorial Sloan- Kettering Cancer Center (MSKCC) ,MD Anderson Cancer Center (University of Texas).

ويوجد تطبيق عملي آخر في علم الأورام لنظام Watson؛ حيث يعمل كنظام تعلم سريع لعلم الأورام، ويركزعلى القدرات المنطقية غير المسبوقة لأنظمة المعرفة المحوسبة باستعمال تقنيات تعلم الآلة لتحديد كيفية وزن العوامل السريرية لدى المرضى، وذلك بهدف معرفة أكثر الخيارات العلاجية ملاءمةً وإعطاء دعم قرار معرفي للأطباء. في الواقع، جرى تدريب نظام Watson بطريقة مشابهة لتعلُّم طلاب مدارس الطب بملاحظتهم للأطباء ذوي الخبرة.

 

 

وإضافة إلى ذلك، ستقودنا هذه التطبيقات الناجحة إلى تطورات مستقبلية تتضمن هذه التقنيات، وذلك لحل المشاكل الصحية المستعصية. وفي مجال تحليل البيانات الجينية لتسريع عملية معالجة مرضى سرطان الدماغ سيقوم نظام IBM Watson للحوسبة الإدراكية بالتدرب على تحليل البيانات الجينية لمجموعة صغيرة من المرضى المشخصين بالورم النخاعي، وهو من أشد وأخبث أورام الدماغ. وبقدرته الإدراكية سيقوم بتحليل الاختلافات بالسلسلة الجينية بين خزعات من أورام الدماغ وتحليل المعلومات الطبية لمساعدة الأطباء على تحديد مجموعة متنوعة من العلاجات وتخصيص نوع العلاج لمرض سرطان محدد.

الخلاصة

يتجلى من هذه النظرة العامة أن موضوع الحوسبة الإدراكية في الرعاية الصحية هو موضوع مثير وواعد؛ فالأكاديميات والقطاع الصناعي تسعى لوضع جهود كبيرة لتحسين الأنظمة الحالية واقتراح حلول مبتكرة تستند إلى الاستفادة من البيانات الضخمة.

ولكن لسوء الحظ لا يزال هناك ضعف في بيئات البنية الأساسية لهذه الأنظمة، ونقص في توفر بيانات ضخمة مفتوحة للدراسة. وبوجه عام تكون التكلفة باهظة حتى في الحدود الدنيا من العتاد الصلب لتشغيل هذه الأنظمة بكفاءة، في حين يمكن الاعتماد على التصميمات المتطورة والحديثة المعتمدة على الحوسبة السحابية.

سيكون للرعاية الصحية الإدراكية تأثير قوي على التطور السحابي. وفي الحقيقة ستكون هناك حاجة لإنشاء سحابة مثلى لجميع البيانات الإدراكية. ومن الجدير بالذكر أنها ستكون هجينة وآمنة في نفس الوقت. ونحن بحاجة أيضًا - إضافة إلى الحوسبة السحابية - إلى إعادة تصميم هيكلية البيانات، وذلك لتباين واختلاف البيانات الطبية، حيث إن 90% من البيانات الطبية هي صور، و 80% من هذه البيانات غير متوفر على شبكة الوب بسبب الخصوصية والأمان. وفي نهاية المطاف فإن الرعاية الصحية الإدراكية سيكون لها تأثير قوي جدًّا على القطاع الصناعي أيضًا.

المراجع:

Paolo Maresca, Mauro Coccoli, 2018 ‘Adopting Cognitive Computing Solutions in Healthcare ' February 2018, Journal of E-Learning and Knowledge Society

Andrew D. Norden , Irene Dankwa-Mullan , Alexandra Urman , Fernando Suarez, Kyu Rhee 2018'Realizing the Promise of Cognitive Computing in Cancer Care: Ushering in a New Era ' 2018, American Society of Clinical Oncology

قد ترغب كذلك بقراءة
الحوسبة الإدراكية والذكاء الصنعي
الحوسبة الإدراكية ومستقبل المعرفة
الحوسبة الإدراكية، ميزات ومستقبل واعد