بقلم دريد جرماشة
مقدمة
تحولت الإنترنت خلال جيل واحد فقط من أمر مستجدٍّ إلى جزء من الحياة اليومية، حتى إن السيارات الذاتية القيادة (Self driving cars) تحولت خلال مدة قصيرة من فانتازيا وأحلام إلى واقع على الطرقات في كثير من الدول المتقدمة، وأتاح علم المعطيات الكبيرة (Big Data) إجراء تحليل سريع جدًّا لكل المعلومات الخاصة بنا، بدءًا من قائمة التسوق وصولًا إلى مشاكلنا الصحية. وخلف كل ذلك يَعِدُ الذكاء الصنعي - ذلك العلم البازغ - بتغيرات في نمط حياتنا إلى درجة أن الثورة الصناعية تصبح أمرًا صغيرًا مقارنة بها، وسيكون مهندسو المعلوماتية في صُلب هذه التغيرات وروادها.
سيقدم هذا العصر فرصًا عظيمة للباحثين في علوم الحاسوب، ولكن تلك الفرص لن تكون على طبق من ذهب؛ فالفرق بسيط بين مستقبل مثالي فاضل تقوده التقانة وبين الانحراف بشكل غير عكوس نحو عالم فاسد. ويقع على عاتق مهندسي الحاسوب الذي يدفعون عجلة التقدم في العصر القادم. فيما يلي أهم التحدّيات القادمة أمامهم:
تحيّز الخوارزميات Algorithmic bias
لنتخيل شابًّا صاحب شركة في العشرين من العمر يحاول الحصول على قرض لإطلاق تطبيق برمجي يقوم بتطويره. إنها فكرة رائعة والكثير من أصدقاء صاحب الشركة يستعملون التطبيق، ولكن كثيرًا من البنوك التقليدية ترفض منحه القرض، وتعتبر أن تقديم هذا القرض لشاب لم يحصل سوى على الثانوية العامة ضرب من المغامرة. ولكن هذه النظرة بدأت تتغير في القرن الواحد والعشرين، ليس لقناعتنا أن الشباب اليافع يمكن أن يكونوا روادًا في التقانة فحسب، بل لأن أحقية الحصول على القرض أصبحت بيد الحاسوب لا بيد البشر. أي إن المسؤولية في اتخاذ القرار ستقع على عاتق خوارزمية لا يكون فيها لعمر طالب القرض أهمية في حساب أحقية الحصول على القرض، بل إن الخوارزمية ستركّز على قوة أهداف خطة الربح. ومن المفترض ألَّا يكون هناك أية صعوبة لمثل هؤلاء الشباب في المستقبل في الحصول على قرض لإطلاق أعمالهم. والواقع أن الأمر أشد تعقيدًا؛ فمع توسع حجم المعطيات الكبيرة ازداد عدد المتغيرات التي تتطلبها الخوارزمية لحساب أحقية القرض وتقديم الرأي، وستأخذ الخوارزمية متغيرات أخرى في الحسبان لتقدير أحقية الحصول على القرض، وذلك إضافة إلى الوضع المالي وخطة العمل الربحي مثل المسلسلات التي أُعجب بها طالب القرض على الفيس بوك والكلمات المفتاحية التي نشرها في مدونته على الإنترنت. ويمكن أن تتضمن الخوارزمية معلومات أكثر خصوصية عن طالب القرض، كقائمة المدفوعات المنفذة ببطاقته المصرفية خلال الفترة السابقة ويحدّد كل ما سبق من معلومات صورة شاملة عن الشخص الذي يرغب بالحصول على القرض.
لن تأخذ الخوارزمية عمر الشخص الطالب للقرض، ولكن مجمل مجموعة المعلومات التي تم تجميعها تعطي ملامح شخصية مراهق لطالب القرض في حالة المثال السابق. على سبيل المثال، من منظور الخوارزمية يقرأ رجال الأعمال مجلات عالمية مثل فايننشال تايمز والإيكونوميست، على حين قد يكون طالب القرض يقرأ مجلات شبابية وينشر عن مشاهير الأفلام والمسلسلات ولا يتابع أسواق الأوراق المالية أو البورصة، وكل ذلك يتوافق مع أشخاص غير واعدين، ومن ثَم ليس لهم أحقية في الحصول على التمويل المطلوب. وهكذا، وبالتأكيد، تَرفض الخوارزميةُ الطلبَ ولن يحصل الشاب على القرض.
إن هذا التحيّز ليس مشكلةً من مشاكل المستقبل البعيد، بل إن بعض الفضائح المتعلقة بتحيز الخوارزميات بدأت تظهر حتى في وقتنا الحالي، فعلى سبيل المثال: يعرض محرك البحث العالمي غوغل الإعلانات الخاصة بالتوظيف العالي الأجر للرجال أكثر من النساء. ولم يقتصر تطبيق الخوارزميات المساعدة في اتخاذ القرار على البنوك، بل اعتمدت في المحاكم وشركات التوظيف والتأمين. إن تحيّز الخوارزميات هذا له تأثير مباشر على حياة الناس ويعقِّد المشاكل التي كانت تنوي حلها جزئيًّا. لا يوجد حلول كثيرة لهذه المشاكل حتى يومنا هذا إلا دعوة الباحثين في مجال علوم الحاسوب لليقظة والحذر لتجنب نقل تحيزهم الشخصي أو تضمينه في البرامج والتطبيقات التي يبتكرونها، وعليهم مراقبة خرج هذه التطبيقات والبرامج بانتظام لمحاولة حل أية مشكلة فيها بالسرعة الممكنة.
أمن إنترنت الأشياء والخصوصية
عندما نتخيل تنبؤات المستقبل خلال الفترة القادمة فإن أحد أكثر الموضوعات التي تتكرر في أذهاننا هي إنترنت الأشياء. بالرغم من غرابة التسمية (إنترنت الأشياء) فإن فكرتها بسيطة وتقوم على أن كل الأشياء من حولنا في حياتنا اليومية من الثلاجة والغسالة في البيت حتى إشارة المرور في الشارع ستكون متصلة بشبكة الإنترنت لكي تعمل بذكاء.
هذا يعني من الناحية العملية وعلى سبيل المثال فإن إشارة المرور الذكية ستكيّف دورتها حسب تدفّق السيارات في المدينة، وذلك حسب الوقت بهدف تخفيف ازدحام السيارات، والثلاجة الذكية سوف تسجل لك قائمة المواد التي انتهت ويجب شراؤها أو ربما تقترح عليك وصفة طبخ حسب المواد الغذائية المتوفرة في الثلاجة. أو أن تشغل الغسالة في الأوقات التي تكون فيها الكهرباء بأرخص سعر حيث يتم تسعير تكلفة شرائح الكهرباء ليس فقط حسب كمية الاستهلاك، بل وقت الاستهلاك أيضًا أو عندما تكون ألواح الطاقة الشمسية في ذروة ادخارها للطاقة الكهربائية، ومن ثَم يحصل الاقتصاد في الإنفاق واستهلاك الطاقة. وقد تحوّلت إنترنت الأشياء من أفلام الخيال العلمي حتى أصبحت واقعًا، فعلى سبيل المثال يمكننا التحكم بالإنارة في المنزل من تطبيق الموبايل. يجب ألَّا ننسى الشق السلبي لهذه التقانة خاصة عندما يتم اختراقها. على سبيل المثال في عام ٢٠١٥ تمكن المخترقون من التحكم بلوحة القيادة في سيارات كريسلر جيب Chrysler Jeep ، ومن التحكم بمكابحها، مما اضطر الشركة لاستدعاء مليون وأربعمئة ألف سيارة لتعديل برمجتها ومنع اختراقها وتجنب هذا الهجوم في المستقبل. قام الباحث الذي اخترق برنامج السيارة فيما بعد بنشر نقطة الضعف في البرمجية، فمكَّن بذلك الشركة من تعديل البرنامج. من الممكن أن تتعرض أشياء أخرى للاختراق على غرار حادثة اختراق سيارات كريسلر، فيقوم المخترق بتوظيف الأشياء في أمور مؤذية تتدرج حسب نواياه بدءًا من السرقة ووصولًا إلى ارتكاب الجرائم.
لا تكمن الخطورة في إمكان اختراق إنترنت الأشياء فقط، فعلى سبيل المثال، حُكم على أحد الأشخاص الذي حرق بيته عمدًا في ولاية اوهيو في أمريكا بعد معاينة مسجل الخطوات ومعدل عدد ضربات القلب التي كذبت ادعاءاته في وقت اندلاع النيران في بيته. يمكن أن يعتقد البعض أن هذا الشخص يستحق ذلك حيث عرض حياته باستعماله الشخصي للتقانة، ولكن لنا أن نتخيل أن إنترنت الأشياء يمكن أن تسجّل الكثير من المعلومات الشخصية التي ربما لا تصل إلى حد اعتبارها عملًا إجراميًّا، ومع ذلك نرغب في أن تبقى هذه المعلومات ضمن إطار الخصوصية الشخصية. يقوم معظم الأشخاص بتحديث كلمات المرور ومضادات الفيروسات في الأجهزة التي يتوقعون أنها معرضة للاختراق مثل الحواسيب المحمولة، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى تغيير في ثقافة الأفراد لتنبيههم على ضرورة القيام بالأمر ذاته في الأشياء الأخرى كالثلاجة والغسالة وغيرها من الأشياء الذكية التي يستعملونها في المستقبل.
وعلى الباحثين في مجال المعلوماتية التصدي لهذا التحدي؛ إذ لا يمثل استدعاء مليون وأربعمئة ألف سيارة سوى غيض من فيض مقارنة بالتكاليف التجارية في حال ارتكاب الخطأ في قضايا الأمان في إنترنت الأشياء.
التعمية والحوسبة الكمومية
يُعدُّ مجال الحوسبة الكمومية من المجالات المثيرة، وإن شرح مبادئ الحوسبة الكمومية يشبه السحر؛ ففي الحاسوب التقليدي أو غير الكمومي، يخزِّن البت الواحد إحدى قيمتين الواحد (1) أو الصفر (0)، وكل العمليات الحاسوبية القياسية مكتوبة بسلاسل من الأصفار والوحدات على المستوى القاعدي. أما البت الكمومي الواحد - الذي نسميه كيوبت qubit - فيمكنه تخزين معلومات أكثر، وذلك لأن الجسيمات المكونة للذرة يمكنها أن توجد في أكثر من حالة في الوقت ذاته.
لا بد أنكم سمعتم بقطة شرودينغر في الصندوق المغلق، وهي حسب الميكانيك الكمومي ميتة وحية في الوقت ذاته. كتمثيل لحالة جسيمات الذرة التي يمكن لها أن تكون في حالة صفر وواحد أو حالة on/off في الوقت ذاته. إنه أمر غريب حقًّا. إن الحوسبة المعتمدة على استعمال الحالة الكمومية للمادة يمكن أن تكون أسرع بملايين المرات وتستهلك طاقة أقل من الحواسيب التي نستعملها اليوم. يفتح ذلك المجال أمام فرص هائلة، ولكن بالمقابل هناك تحريات لا يمكن الفرار منها في الحوسبة الكمومية.
يمكن إرسال المعطيات وحفظها اليوم بفضل إمكان تعميتها. تخيل المعطيات المعماة وكأنك أمام باب مغلق لا يمكن الدخول عبره إلا إذا امتلكت المفتاح المخصص له. يمكنك تجربة عدد كبير من المفاتيح ولكن مَن حولك سيكتشفك حتمًا قبل أن تفتح الباب، لأن عملية التجريب هذه ستأخذ وقتًا طويلًا. تخيل مع الحوسبة الكمومية أن عملية تصنيع وتجريب المفاتيح أسرع بملايين المرات من السابق! عندها ستكتشف أن عملية قفل الباب بهذه الطريقة ليست فعالة أبدًا.
في الكثير من الحالات نعرف جواب السؤال: هل نحن جاهزون عندما تقلع الحوسبة الكمومية؟ إن صناعة برمجيات الحماية والأمان واعية لهذه التحديات وتعمل بجد للتصدي لها. لا يكمن التحدي في توفير الحلول التقنية لهذا المجال بقدر ما يكمن في إقناع الناس بها. عندما نعلم أن أكثر كلمات المرور شيوعًا في العالم هي كلمة (password) سندرك حجم التحدي أمام الباحثين في مجال علوم الحاسوب. إذا لم يكن بمقدورنا إقناع الناس باستعمال كلمات مرور معقدة لتوفير الحماية لمعلوماتهم، فكيف يمكننا إقناعهم بأن هناك ثمة حواسيب ذات سرعة فائقة تغذيها قطة غير ميتة قادمة لتسرق كل معطياتهم؟
الذكاء الصنعي
لا بد أنكم سمعتم عن نجاح [1]AlphaGo من غوغل مايند GoogleMind الذي تغلب على الإنسان في لعبة Go الصينية المعقدة، وهي لعبة يعود تاريخها إلى أكثر من 3000 سنة، ويحتاج الربح فيها إلى تشغيل عدة مستويات من التفكير، حيث يبلغ عدد التشكيلات الممكنة في هذه اللعبة إلى عشرة قوة 170 تشكيل (10170)، أي أكثر من عدد ذرات الكون. وبذلك تعتبر لعبة Go أعقد بـ 10100 مرة من لعبة الشطرنج. السؤال الذي نطرحه اليوم: كم يلزم من الوقت حتى يتغلب الحاسوب على الإنسان في المجالات الأخرى؟ تتفاوت أجوبة الباحثين في هذا المجال: فالبعض يجيب أن ذلك ممكن خلال بضع سنوات، وآخرون يرون أن هذا مستحيل.
إن هذا الأمر بغاية الأهمية، ولا يمكننا تخيّل كيفية استمرار العالم إن لم يكن الإنسان أذكى الأشياء والمخلوقات على هذا الكوكب. لم يحاول الإنسان طوال حياته التحكم بأي شيء يفوقه بالذكاء وكيفية تحقيق هذا الأمر غير واضحة بعد. قد يظن البعض أن هذا الأمر فيه تجسيد كبير للحواسيب، ولا يهم إن كان الحاسوب أذكى منك، فبالمحصلة هو مجرد آلة وليس لديه إرادة وسوف ينفذ ما يطلب إليه، ولكن هذا ما يثير مخاوف الباحثين في علوم الحاسوب في مجال الذكاء الصنعي، لأنه سينفذ ما يطلب منه دون أي تفكير حول النتائج الممكنة. ماذا لو نفّذ ذكاء صنعي خارق أوامر شريرة بسرعة كبيرة وبفعالية عالية جدًّا بحيث لا يمكن تجنب النتائج؟ كيف يمكن أن نضمن بأن الذكاء الصنعي ينفذ الأوامر وفق نيتنا؟
تخيل بأن لديك حيوانًا أليفًا في المنزل ويريد أن يأكل. تريد أن تقدّم له الطعام ولكن ليس لديك المال الكافي. تذهب وتعمل وتكسب المال وتعود للمتجر وتشتري له الطعام. عملية الذهاب للعمل لا تعني شيئًا بالنسبة للحيوان، ولكن كونك أذكى منه فأنت تعرف أن ذهابك للمتجر خطوة من الإجرائية لإطعام الحيوان الأليف. يمكن أن نجد أنفسنا في موقع الحيوان الأليف تمامًا حيال الذكاء الصنعي أي غير قادرين على الحكم: هل أفعال الذكاء الصنعي غير مفهومة أم خاطئة؟ ببساطة نحن لسنا أذكياء كفايةً لفهمها. ماذا لو لم نتمكن من تحديد الفرق الزمني لوقف خطأ كارثي؟!
المراجع
https://deepmind.com/research/case-studies/alphago-the-story-so-far
https://www.oxford-royale.com/articles/4-challenges-computer-scientists