دراسات وأبحاث
التقانات في مواجهة الكوارث
العدد 155 | تشرين اﻷول (أكتوبر)-2020

بقلم محمد حمامي
دكتور باحث

آلمتْ حرائقُ الغابات التي حلَّت بسورية صيف هذا العام قلوبنا جميعًا، وقد وقفنا عاجزين عن تقديم العون إلا من دعاء الله سبحانه وتعالى لها ولأهلنا هناك. وإننا نعيش – ويا للأسف – في عالم تسوده العديد من الكوارث سواء كانت طبيعية أو غير طبيعية؛ كالفقر، والمجاعات، والأمراض والأوبئة، والحروب، والقتل، والحرائق، وانهيار المباني، والبراكين، والزلازل، والأعاصير، والفيضانات، والسيول... إلخ. تُسبِّب هذه الكوارث خسائر بشرية كبيرة، وأحدث مثال على ذلك أن عدد الوَفَيات الحقيقي من كوفيد-19 تجاوز المليون حتى تاريخ إعداد هذه المقالة، ويقال إن العددَ الحقيقي أكبر هذا بكثير. وتشير الإحصائياتُ إلى أنه قد تضاعفت التكلفة العالمية للكوارث الطبيعية في عام 2017 عما كانت عليه في 2016؛ فقد تسبَّبت أحداثٌ كارثية - مثل حرائق الغابات والفيضانات والأعاصير والزلازل - في خسارةٍ اقتصادية بلغت 306 مليار دولار في عام 2017.

وظهرت نتيجةً لهذه الخسائر الكبيرة حاجةٌ ملحة للتفكير في استثمارٍ أفضلَ للتقانات لدعم أنظمة استجابة الطوارئ الخاصة بالكوارث؛ منها ما يتعلق بنظم دعم القرار عن طريق جمع المعلومات وتحليلها قبل وقوع الكارثة وفي أثنائها وبعدها - وهو ما تهتم به هذه المقالة - ومنها ما يتعلق بأدوات وآلات عمل الطوارئ.

أهمية البيانات

تحوَّلت إدارة الكوارث في العقدين الأخيرين من التركيز على الاستجابة للكوارث والتعافي (بعد الكارثة) إلى التركيز على الحدِّ من مخاطر الكوارث. فأُنشئت أنظمةٌ لإدارة معلومات الكوارث تَستعمل مصادر قليلة للمعلومات، وهي قابلة للزيادة في ضوء تقدم تقانات إنترنت الأشياء وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي. إذ إنَّ لتوفُّر البيانات دورًا هامًّا في نجاح الإجراءات المتخذة في جميع مراحل الكوارث والأزمات: فدورها قبل حدوثها التنبؤ بها وقياس مؤشرات الإنذار والتحضير لها، ودورها في أثناء حدوثها دعمُ قرار اتخاذ الأسلوب المناسب للتعامل معها، ودورها بعد حدوثها تحديدُ كيفية إعادة الأمور إلى مجراها الطبيعي واستخلاص الدروس والعبر للاستفادة منها عند تجدُّد هذه الكوارث أو الأزمات.

تتنوع هذه البيانات إلى بيانات مرئية وصوتية ونصية وجغرافية، وقد تكون من أجهزة استشعار حديثة وغيرها. يمكن ربط هذه البيانات المهمة بعضها ببعض لاستثمارها في المجتمع أو أجهزة إدارة الطوارئ بقصد استنباط نماذج تنبؤ ومحاكاة لتحسين وتسريع اتخاذ القرارات الحاسمة لتحقيق استجابة موثوقة وأكثر دقة في حالات الكوارث.

من جهة أخرى، يمكِّن انتشارُ وسائل التواصل الاجتماعي والأجهزة الذكية ومواقع الوب المخصصة للتواصل من تجميعِ كميةٍ كبيرة من البيانات التي تتميز بأن مصدرها الناس أنفسهم قبل الكارثة وخلالها وبعدها. وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي في الوقت الحاضر جزءًا كبيرًا من حياة الجميع؛ ففي العقد الأخير بات تأثيرها كبيرًا في مختلف نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحتى الرياضية والفنية. يمكن جعل هذه الوسائط أحد أهم مصادر المعلومات للتأهب للكوارث والاستجابة لها والتعافي منها.

يجب أن نهتم عند جمع البيانات وتحليلها بما يلي:

  • سرعة الوصول إلى البيانات.
  • دقة البيانات.
  • تعدد أنواع البيانات.
  • مصداقية مصادر البيانات.

 

معلومات الجغرافيا المكانية

لم يَعُدِ الاعتماد على الخرائط التقليدية أو مخطط الطريق كافيًا لاتخاذ القرارات حتى ذات الطابع الشخصي السياحي، فما بالكم عند الكوارث التي يتطلب التعامل معها توفر معلومات أكثر شمولية ودقة لاستعمالها في عملية اتخاذ القرار، عندئذ تصبح الخرائط التقليدية غير كافية. وتظهر الحاجة إلى مزيد من المساعدة للتعامل مع كمية المعلومات التي يجب أخذها بالحسبان وتمثيلها على الخريطة. لذلك تم تطوير برامج تساعد على تخزين بيانات الجغرافيا المكانية والمحافظة عليها، ووضع تصور لها، وتبسيطها وتحليلها، وقد أطلق عليه برنامج نظم المعلومات الجغرافية GIS. وأبسط مثال على استعمال البيانات الجغرافية المكانية عند الكوارث هو أن تفعيل الخدمات المعتمِدة على الموقع في وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تساعد أجهزة الطوارئ على إنقاذ حياة الناس وتقديم المساعدة لهم بالوصول السريع إليهم نتيجة معرفة موقعهم.

الاتصالات الراديوية

يمكن الاستفادة من أنظمة الاتصالات الراديوية في المساعدة على إدارة الكوارث بواسطة تقنيات الإنذار المبكر والوقاية وعمليات الإغاثة في أعقاب الكوارث، ويتضمن ذلك توفير أنظمة اتصالات أرضية وساتلية للمساعدة على الحفاظ على الأرواح والممتلكات وصونها في المنطقة المنكوبة.

يتطلب كل ذلك تحديد نطاقات الترددات والخدمات المستعملة للإنذار بالكوارث والتخفيف من حدتها بتوفير وصلة اتصال موثوقة لاستعمالها في عمليات الإغاثة كالسواتل التي تعد أنسب وسيلة لإقامة وصلة اتصال سريعة مع المرافق البعيدة.

تاريخيًّا، أثبتت الخدمات المتنقلة والثابتة وخدمات الهواة وخدمات الهواة الساتلية أهميتها الكبيرة في مجالات التنبؤ بالكوارث واكتشافها والتخفيف من حدتها. إذ يمكن للكوارث أن تقضي على البنى التحتية للاتصالات الراديوية؛ وفي هذه الحالات تتيح خدمة الهواة وخدمة الهواة الساتلية المحافظةَ على وصلات الاتصال في المناطق المتأثرة بالكوارث الطبيعية.

تَستعمل أنظمة الإنذار المبكر من بُعْد الترددات الراديوية اللازمة للحصول على البيانات من سواتل الاستشعار من بُعْد لمعالجتها وتحليلها وتوزيعها، ويمكن أيضًا استعمال التطبيقات الخلوية للخدمة المتنقلة في نظام للإنذار المبكر، حيث إنها تتيح للسلطات إقامة اتصال مباشر مع المواطنين الذين يمتلكون جهاز استقبال متنقلًا.

 

المعالجة الحاسوبية للبيانات

بالرغم من حجم الفرص الكبيرة نتيجة لوجود البيانات السابقة، مازلنا بعيدين عن الحصول على نظام معلومات شامل لإدارة الكوارث. إذ يجب أن تكون لهذا النظام القدرة على التعامل بفعالية مع بيانات غير متجانسة ذات أبعاد كبيرة، كما يجب أن يكون قادرًا على تحليل هذه البيانات آليًّا لاستخلاص المعلومات الحرجة وتقديم خدمات طوارئ للسكان في مناطق الكوارث أو لأجهزة الطوارئ هناك.

يُعدُّ تحليلُ كلٍّ من البيانات الضخمة وبيانات الوسائط المتعددة عاملًا أساسيًّا في أنظمة معلومات الكوارث لتتعامل بكفاءة مع البيانات الضخمة المولَّدة في أوقات الكوارث. يشمل ذلك استعمال منهجيات الذكاء الصنعي وتعلُّم الآلة والتعلم العميق والتعليم المعزز. وغالبًا ما تتضمّن خطوات تحليل بيانات الكوارث تحضيرًا أوليًّا للبيانات، ثم فرزها وتلخيصها وإجراء التحليلات التنبُّئِية لاستخلاص معلومات مفيدة منها. ثمّ تأتي المحاكاة الحاسوبية باستعمال برامج تحتوي على نماذج تفصيلية للواقع ثم تشغيل سيناريوهات افتراضية مشابهة للكوارث المحتمل وقوعها لتعطي المجتمع القدرة على التعامل بالوجه الأمثل؛ إذ إنَّ هذه البرامج تتيح للمحللين القدرةَ على تجريب واختبار ردود الفعل المفترضة، والتنبؤ بمدى تأثيرها خاصة مع إمكان تكرارها، وبتغيير أنواع مدخلاتها ومخرجاتها بسهولة، مما يجعل المحاكاة الحاسوبية في كثير من الأحيان بديلًا عن التجارب الحقيقية.

 

ترابط البنى التحتية

تتألف البنية التحتية النموذجية من مزيج من الأنظمة الهندسية المتداخلة والمترابطة فيما بينها لتحقيق وظائفها. تُستعمل البرامج الحاسوبية لتعريف وتوضيح هذه الارتباطات Infrastructure Interdependency Simulators.

 

دراسة حالة

نظمَّت كندا في فانكوفر دورةَ الألعاب الشتوية عام 2010. وافترضت الحكومية الكندية وقوع كارثة زلزالية، وتريد معرفة ما يجب أن تقوم به. قام الباحثون هناك ببناء نموذج لبيئة تماثل المنطقة المركزية للمدينة ذات الكثافة العالية (12 ألف شخص في الكيلو متر مربع الواحد). يحتوي النموذج على عدة قطاعات حساسة (مدرجين للألعاب الرياضية، أربع محطات كهرباء، محطة مياه، مستشفيين...). ثم حدَّد المختصون بهذه البنى الترابطات بين القطاعات، وطوروا برنامجًا حاسوبيًّا خاصًّا يستعين بالتعليم المعزز للتعامل مع هذه الكارثة.

نتج في أحد سيناريوهات الكارثة الزلزالية تصدعٌ في محطة كهرباء أساسية، فانخفض إنتاجها من الكهرباء، وأُصيب مئات الأشخاص. طُلب من البرنامج الحاسوبي مراقبة النموذج السابق وتوزيع الموارد المتوفرة البشرية والمادية (ومنها الكهرباء والماء) توزيعًا أمثليًّا بأقصر مدة ممكنة، بحيث يضمن عمل البنى التحتية الموجودة، وخاصة المستشفيات التي سوف تسعف المصابين.

أوضحت هذه التجربة للكنديين أهمية هذا النوع من الأبحاث فيما يتعلق بكافة القرارات الخاصة بالتعامل والاستعداد للكوارث، فقاموا ببناء أنظمة أخرى مشابهة لكل المدينة والمدن المحيطة بفانكوفر.

 

ماذا بعد؟

إذن يجب إنشاء أنظمة تفاعلية لمراقبة الكوارث والاستجابة لها بنموذج يمكِّن من اتخاذ القرارات الصحيحة عند حدوث الكوارث الطارئة (التي تقدر مدتها بلحظات كالزلازل، أو التي تستغرق مُددًا طويلة كانتشار الأوبئة) ونقص إمدادات الطاقة. ويجب استعمال الأدوات الهندسية الجديدة مثل المسيَّرات والحساسات والروبوتات التي تتيح جمع البيانات عن البنية التحتية والبيئية لمكان ما قبل حدوث الكارثة، ولاكتشاف أي خطر يهدد المحميات والغابات وخطوط الطاقة والغاز ومخازنها آليًّا ولحظيًّا بسبب صعوبة مراقبتها بشريًّا على مدار الساعة (الإنذار المبكر). كما تتيح هذه الأدوات جمع البيانات بسرعة من الأماكن المدمَّرة التي لا يمكن الوصول إليها عادة بسهولة أثناء الكارثة وبُعيدها.

قد ترغب كذلك بقراءة
التسويق عبر الإنترنت
الحرب السيبرانية، الأهداف، الردع، الدفاع
متطلبات المعرفة الأساسية لقياس موثوقية البرامج